يَستحيل تقدير عمق الجرح الذي غار في صميم «حزب الله» وبيئته، وكلّ المتعاطفين مع خطّ المقاومة الذين تقطّعت قلوبهم، باغتيال السيّد الشهيد حسن نصرالله. كل شيء كان متوقعاً بالنسبة اليهم إلّا أن يغيب السيّد.
في إسرائيل ينتشون ويحتفلون بسلسلة صدمات مباغتة وموجعة جدّاً لـ»حزب الله» في أقل من أسبوعين؛ اغتيال القيادي فؤاد شكر، تفجير «البيجر»، تفجير أجهزة اللاسلكي، اغتيال القيادي ابراهيم عقيل وقادة الرضوان، اغتيال قائدي القوة الصاروخية ابراهيم قبيسي ومحمد سرور، وآخرها اغتيال السيّد الشهيد وما تلاه من اغتيالات لكوادر في الحزب.
التقدير المُروَّج من المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل أنّ «حزب الله» اختنق جراء هذه الصدمات، ونتنياهو يقول إنّه سيواصل ضرب الحزب بكلّ قوة. وأمّا الهدف الذي بدأ يتعالى صداه داخل إسرائيل فليس فصل جبهة الإسناد التي يقودها «حزب الله» عن غزة، بل فرض معادلة جديدة؛ كسر الحزب كمقدمة إلى تغيير النظام في لبنان، يمهّد إلى تغيير الشرق الأوسط. ونبت في موازاته في الساعات الأخيرة هدف جديد عبّر عنه وزير الطاقة الإسرائيلية إيلي كوهين، بأنّهم يبحثون عن ثغرة لإلغاء ما سمّاه «اتفاق الغاز الفاضح مع لبنان».
الدعاية الإسرائيلية تروّج أنّ «حزب الله» لن ينجو من النزيف القيادي الحاد الذي أصابه، وتماشيها قراءات متعدّدة المصادر زايدت على إسرائيل بافتراض أنّ الحزب سيجد صعوبة في إعادة ترميم نفسه ويعاني عجزاً في العثور على بديل للسيّد نصرالله، لأنّ الإستهداف طال قادة الصفّ الأول، وليس معلوماً كم بقي منهم على قيد الحياة.
المؤكّد أنّ «حزب الله» مفجوع ومنكوب ودفع ثمناً كبيراً جدّاً، وثمّة قراءات متعاطفة تؤكّد أنّ الحزب يعرف جيداً أنّ الحرب قاسية، ولها أثمان ستُدفع، فمشواره طويل جدّاً مع الإغتيالات؛ من الشيخ راغب حرب إلى الأمين العام السيّد عباس الموسوي، والسلسلة الطويلة من القادة والكوادر. هي خسارات كبرى أكيدة، ولكنها ذخّرته لإكمال مسيرته بفاعلية أكبر، وضمن هذا السياق، لطالما اعتُبر السيّد الشهيد نفسه مشروع شهيد. وفي خلاصتها تأكيد بأنّ «حزب الله» سيحتوي مصابه، وقناعة بأنّ مقولة «الصبر الاستراتيجي» أو «الصمت الاستراتيجي» أو التكتيك، لا تجدي، فحجم ومستوى الاغتيالات وما بلغه العدوان المدمّر على الضاحية والجنوب والبقاع، بات يستوجب الانتقال إلى «الهجوم الاستراتيجي» وتدفيعه أثماناً استراتيجية، إنفاذاً لآخر ما قاله السيّد الشهيد للإسرائيليين: «إضحكوا الآن كثيراً.. فستبكون كثيراً».
وعلى ما يقول قريبون من «حزب الله»، اذا ما ركنّا إلى الدعاية الإسرائيلية، فالإحباط سيلازم كلّ من هم في خط السيّد الشهيد، وهذا ما يرمي إليه العدوان في استهدافاته التدميرية للمناطق المدنية، وحربه النفسية على الناس. المسألة مسألة وقت قصير، وبنية «حزب الله» القياديّة الجديدة لن تتأخّر في الإعلان عن نفسها، وأكثر من ذلك، ربّما تفاجىء الجميع بوجوهها.
هنا يحضر السؤال عن السيناريوهات المحتملة بعد اغتيال السيّد نصرالله؟
«حزب الله» أعطى من خلال مواجهاته المتواصلة في الميدان، سلسلة إشارات على تحفّز ويقظة وجهوزية على الجبهة الجنوبية، والتزام قاطع بإبقاء جبهة إسناد غزّة مفتوحة، حيث لم يوقف إطلاق الصواريخ على الجليل والعمق الإسرائيلي. فالحرب في بدايتها، وعلى ما يقول ممثل الحزب في الحكومة الوزير مصطفى بيرم «الأمور في خواتيمها».
في إسرائيل يقولون أيضاً، «إنّ التصريحات والمظاهر الإحتفالية بـ»زوال الخطر» مبالغ فيها إلى حدّ كبير، فـ«حزب الله» رغم الضربات، ما زال بعيداً من الهزيمة وما زال قادراً على توجيه ضربات عنيفة إلى اسرائيل، وإطلاق مئات الصواريخ في وقت واحد على حيفا وتل أبيب، إنْ أفلتت بعض الصواريخ من القبة الحديدية فستكون نتائجها مدمّرة».
إسرائيل في عدوانها اثبتت أنّها متفوقة في المعادلة الإستخبارية والمعادلة الجويّة ومعادلة التدمير للأحياء السكنية من الضاحية الى الجنوب والبقاع، ولكن هذا التفوّق لم يغيّر المعادلات القائمة على الأرض، حيث أنّها بكثافة هذه النيران وتوسيع مساحة الدمار، لم تستطع أن تعيد مستوطناً واحداً إلى الشمال، والإعلام الاسرائيلي يقول إنّ العدوان «لم يوقف فوهات الصواريخ، التي يديرها قادة جدد على ما يبدو»، ويسأل: «مع هذا القصف الكبير، يقترب السكان من الشمال أم أنّهم يبتعدون»؟
بموازاة ذلك، السرديّة الطاغية لدى كلّ النظام السياسي في اسرائيل هي أنّ «حزب الله» منهك القوى، وربما يُحتضَر، ولا سبيل أمامها في هذا الوضع إلّا أمر واحد هو تصعيد الضغط العسكري بالشكل الحاصل حالياً، كمقدمة لعملية بريّة تغيّر الواقع على الحدود وتعيد سكان الشمال وتُخرج الحزب من المنطقة باتفاق مكتوب. ونتنياهو المزهو بالانتصار التدميري يلوّح بها كخيار قوي، ومعارضوه يحمسّونه عليها «إن لم نتوصّل إلى اتّفاق قوي وموثوق في المستقبل القريب».
تبعاً لذلك، فإنّ العملية البرية سواء أكانت محدودة أو واسعة، تشي استعدادات إسرائيل بأنّها خيار شبه مؤكّد وجيش الاحتلال يروّج لانتصار مسبق فيها. ولكن إنْ حصلت فهل ستحقق لاسرائيل ما تهدف اليه؟
«حزب الله» وعلى ما يقول العارفون، يدرك أنّه يخوض حرباً وجودية، ومنذ ما قبل اغتيال قادته، جهّز نفسه للمواجهة البريّة.
المحلّلون الإسرائيليون العسكريون والسياسيون يؤكّدون ذلك، ويسلّطون الضوء على صعوبتها والأثمان الباهظة التي يمكن أن يدفعها الجيش الاسرائيلي فيها. وأحدهم يقول: «لا احد قادراً على وقف الجبهة وضبطها إذا ما ذهبنا الى حرب مفتوحة، لا سقوف فيها بالتأكيد»، ويضيف: «عملية برّية تحتاج إلى جيش سليم، فكيف بجيش منهك». والأبرز في هذا السياق، تحذير صحيفة «يديعوت احرونوت» العبرية من «أنّ بدء الهجوم البري على لبنان فذلك سيكون بمثابة الدخول في فخ الموت الذي يعدّه «حزب الله».
الأميركيون يعتبرون أنّ «حزب الله» اليوم ليس الحزب الذي كنا نعرفه قبل اسبوع»، لكنهم يعتقدون «انّ الحزب سيحاول التعافي وسيتمّ تعيين بديل لنصرالله»، وهذا الكلام لمنسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي في البيت الابيض جون كيربي. على أنّ الأهم هنا، هو أنّهم ما زالوا يحذّرون من العمليّة البريّة، لأنّها في رأيهم ليست في مصلحة إسرائيل ولبنان، وستؤدي إلى حرب واسعة وشاملة، ولن تمكّن إسرائيل من إعادة السكان.
والصحافة الأميركيّة ترتكز على تقديرات «البنتاغون» بخطورة العمليّة البريّة على إسرائيل، فصحيفة «نيويورك تايمز» سألت: «كيف سيعود السكان إلى الشمال إذا تحوّل التصعيد إلى حرب شاملة؟ والمحلل الأميركي سكوت ريتر يقول: «إذا ذهبوا إلى الحرب مع «حزب الله» انتهى الامر، سوف نرى أشياء لم يرَ الإسرائيليون مثلها؛ استسلام جماعي، خسائر فادحة، وحدات كاملة ستُزال من خطة المعركة، هذا هو مستقبل إسرائيل». والواقع نفسه تناولته صحيفة «الغارديان» البريطانية، حيث قالت «إن القوات الإسرائيلية ستواجه تحدّيات لم يسبق أن شاهدتها في حال عبرت الحدود الشمالية مع لبنان».
بناءً على ما تقدّم، الحرب في ذروتها، والمسار تصاعدي، والأيام المقبلة حبلى بالاحتمالات والصعوبات وربما المزيد من المفاجآت.