الوضع مقلق لا يبشّر بالخير، هذه المرة ليس على الصعيد السياسي أو الأمني بل على الصعيد المناخي، وكأنّ الطبيعة لا تريد لفرحة لبنان أن تكتمل. احتباس للأمطار والثلوج لم يعرفه لبنان منذ أكثر من 25 عاماً وكانون “فحل الشتاء” يكاد ينقضي من دون أمطار. حتى اليوم خسرنا ثلثي الشتوية ولا تزال المتساقطات أقل بحوالى 60 في المئة من معدلاتها الطبيعية. الرهان على شباط “اللباط” لينقذ موسم المتساقطات ويبعد عن لبنان شبح الشحائح… فهل يفعلها شباط؟
الأرقام من مصلحة الأرصاد الجوية في مطار رفيق الحريري الدولي. ومقارنة مع الأعوام السابقة والمعدّلات العامة تعتبر السنة جافة، حتى لو أتت الشتوية متأخرة فقد يصعب على شهري شباط وآذار التعويض عن النقص الحاصل ويتوقع ألا يستطيعا تجاوز 75 في المئة من المعدّل العام. الأرصاد تشير إلى منخفض جوي قادم لكنه سيكون منخفض المستوى والتأثير ولن تتدنى فيه الثلوج عن 1500 متر. الحرارة أعلى من معدّلاتها الموسمية بثلاث أو أربع درجات. كلّها مؤشرات خطرة سيكون لها انعكاس حتمي على المزروعات والمياه والصحة ومختلف نواحي الحياة هذا عدا الخسائر الاقتصادية الحالية نتيجة تأخر موسم التزلّج وغياب الروّاد عن محطاته.
تحت المعدل
رئيس قسم التقديرات السطحية في مصلحة الأرصاد الجوية في المطار محمد كنج لا يبدو متفائلاً، فالأرقام بين السنة الماضية والسنة الحالية تشير إلى تراجع كبير في نسبة الأمطار ولا تزال أقل بكثير من المعدل العام الذي يبلغ في بيروت 429 ملم لكنه حتى اليوم لم يتخط 243,4 فيما بلغ السنة الماضية في مثل هذا اليوم 676,2 مليمتراً. أما بالنسبة إلى التراكمات الثلجية فتلك إشكالية ثانية حيث جاءت المنخفضات السابقة محدودة وقصيرة وذات فاعلية متوسطة ولم يشهد لبنان “العيانات” الثلجية التي كان يعهدها وتستمرّ على مدى سبعة أيام كما يمنع ارتفاع درجات الحرارة امتداد الثلوج على فترات طويلة.
الظاهرة غريبة بلا شك ومقلقة. صحيح أن لبنان شهد في العام 2022 وصولاً متأخراً للشتاء وعرف ثلجتين كبيرتين في آذار لكن ذلك نادراً ما يحدث. والأمل هذا العام أن تحدث عواصف ثلجية في شهري شباط وآذار وأن تكون كمية التراكمات الثلجية كبيرة حتى يستمرّ الثلج لفترة أطول. فالثلوج هي الخزان الذي يغذي المياه الجوفية والينابيع بشكل انسيابي تدريجي وفي حال الذوبان السريع للثلوج يحدث شحّ في المياه الجوفية وتتراجع طاقة الينابيع والأنهر. ومن المتوقع في حال استمرار انحباس الأمطار أن تبدأ أزمة شح المياه منذ منتصف الربيع بدل منتصف الصيف وسيكون لها تأثير كذلك على الكهرباء. فتراجع طاقة الأنهر يؤثر بشكل مباشر على توليد الكهرباء في المعامل التي تعتمد على الطاقة المائية. ولكن معظم هذه التأثيرات قد تنعكس إذا فاجأنا شباط بعواصف كبيرة و “عيانات” طويلة تغطي جبالنا بالأبيض حتى ولو حوّلت طرقاتنا إلى أنهر وبحيرات.
من جهته، يؤكد الخبير المائي والأستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور جلال حلواني أن احتباس الأمطار أمر مقلق جداً جداً والتغيير المناخي لم يعد وهماً بل إن نتائجه واضحة جداً. عملياً لا بدّ من توافر 61 يوماً مطرياً على الأقل ليكون الوضع طبيعياً وتحت هذا المعدل نكون في منطقة الخطر. و إذا لم نشهد أيام أمطار غزيرة في أواخر كانون الثاني وشباط يتساقط فيها المطر لمدة 20 ساعة في اليوم تتشبع معها التربة بالمياه ويحدث شحن تدريجي لخزانات المياه الجوفية فنحن في حالة قلق حقيقي. إذا نزل المعدل إلى أقل من 60 يوماً فهذا كارثي على مخزون المياه الجوفية وعلى توفر المياه سواء للشرب والاستعمال الشخصي أو للري كما للاستعمالات السياحية والصناعية في بقية أيام السنة ولا سيّما في فصل الصيف. حين يصل عدد الأيام الماطرة إلى تسعين يوماً حينها يكون لبنان في وضع مثالي وفي منأى عن الشحائح. أما بين ستين وتسعين يوماً فتلك مرحلة حرجة أما المتفق عليه المقبول فهو 76 يوماً ماطراً.
في حال استمرار احتباس الأمطار، فالناس لن يشعروا به فقط على صعيد نقص الموارد المائية بل إنه سيهدد الأمن المائي والغذائي والصحي وسينعكس سلباً على كل مرافق الحياة.
المزروعات تئنّ
“هي الأكثر تأثراً بانحباس الأمطار ومواسم زراعية كثيرة مهدّدة. القمح والبطاطا في البقاع اللذان زرعا وبدآ ينموان قد يحتاجان إلى الريّ في حال لم تتساقط الأمطار قريباً ومعروف أن الريّ أكثر كلفة من الأمطار الطبيعية وقد يكون موسمهما ضعيفاً. أما الأشجار المثمرة لا سيما اللوزيات التي تحتاج إلى درجات حرارة منخفضة حتى لا تزهر باكراً فقد بدأت تزهر نتيجة ارتفاع الحرارة وهي معرّضة لفقدان أزهارها في حال تساقط حبات البرد أو الأمطار الغزيرة أو إذا أتت موجة صقيع يمكن أن تقضي على موسمها. حتى الحشرات والآفات الزراعية وفئران الحقول على تزايد بسبب تراجع البرد الذي يمنع في العادة انتشارها وبدأت حشرات الساحل تنتقل إلى المناطق الجبلية بسبب ذلك”. هي معلومات يوردها المهندس ميشال افرام رئيس مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية مؤكداً أننا دخلنا مرحلة الخطر، و “إن لم تتساقط الأمطار والثلوج بشكل كافٍ في ما تبقى من موسم 2025 فإننا مقبلون على وضع صعب على صعيدي الزراعة والمياه”.
الأشجار المثمرة مثل الكرز والمشمش والإجاص وحتى الزيتون تنذر بموسم ضعيف وإنتاج قليل لأنها لا تتحمل حرارة مرتفعة في الشتاء والربيع أو قد تصيب ثمارها الحشرات وتتلفها. وحدها الخضار يمكن أن تتأقلم لأن فترة زراعتها قصيرة ويمكن ريّها بالمياه .
مصلحة الأبحاث الزراعية تنصح المزارعين بريّ مزروعاتهم لا سيّما البطاطا والقمح خلال هذه الفترة وكذلك تأمين المياه للأشجار المثمرة كي تتحمل الجفاف وصولاً إلى شهر شباط وتأمين ريّ تكميلي للبقوليات مثل الفول والحمص. لا شك أن الريّ مكلف يقول المهندس افرام لكنه “يبقى أقل كلفة من خسارة المواسم مع اعتماد تقنية الريّ بالتنقيط التي تحفظ المياه لا سيّما أن الآبار الجوفية قد انخفض مستواها. وإذا استمرّ انحباس الأمطار فلا شك أننا سنعاني من نقص في كمية الفاكهة وفي جودتها”.
يبدو البقاع الأكثر تأثراً بموجة الجفاف التي يعيشها لبنان إذ لم يشهد سوى 25% فقط من الأمطار المعتادة وكذلك بعض المناطق الجبلية فيما الشمال أقل تأثراً نتيجة تساقط كميات أكبر من الأمطار فيه. حتى المناطق الساحلية حيث زراعة الموز والحمضيات والخضار ستتأثر لاحقاً بسبب نقص المياه. فلبنان لم يعد يشهد سنوات مطرية غزيرة ومنذ عشرة أعوام حتى اليوم يؤكد افرام “لا أمطار أكثر من المعدل العام بل إما أقل أو قريبة منه وكل هذا بسبب التغيّر المناخي الحاد وتغيّر نظام المطر. فحين تتساقط كميات أمطار كبيرة في وقت قصير لا يمكن للأرض تشرّبها وتذهب هدراً بدل أن تغذي خزانات المياه الجوفية، فيما الأمطار المتواصلة الخفيفة والثلوج هي المطلوبة لتخزين المياه الجوفية وريّ الزرع”.
نصائح مهمة: احموا زرعكم
للأسف اليوم لا يمكن القيام بخطوات سريعة وفعالة لإنقاذ المواسم الزراعية لكن مصلحة الأبحاث تقدّم بعض النصائح للمزارعين منها تأخير موعد الزراعة حتى لا يزهر باكراً واعتماد نوعيات من القمح والبطاطا والأشجار المثمرة تحتمل الجفاف أكثر من سواها. تأخير استعمال الأسمدة حتى لا تنمو المزروعات بسرعة وتفضيل الأسمدة العضوية. ومكافحة الحشرات بالطرق الحديثة وليس من خلال المبيدات أو اعتماد الشباك لتغطية المزروعات لمنع دخول الحشرات أو حبات البرد إليها .
نفسياً… كآبة شمسية ترصدكم
ذاك الحنين الدافئ الذي يرافق أيام المطر الرمادية تحول في لبنان مع احتباس الأمطار والثلوج إلى شعور بالنقص والقلق من مستقبل مجهول لا ينذر بالخير يعرف في علم النفس بالقلق البيئي. غابت عن شتائنا مشاعر “الكنكنة” والألفة الموسمية المرتبطة بالمطر والثلج وبرودة الطقس ما زاد من مشاعر الغربة والكآبة. كما غابت عن قمم جبالنا الثلوج التي لطالما شكّلت ميزة من مميزات لبنان فأتى غيابها ليولد خيبة أمل وكأن الطبيعة تخذل لبنان وتحرمه من أجمل ما فيه.
انقلبت المعايير في شتاء لا يشبه الشتاء. محبّو الشمس و “البرونزاج ” والبحر لا يخفون فرحهم بهذا الطقس “الجميل”، وإن في غير موسمه. لكن في الواقع حتى الشمس والسماء الصافية الزرقاء اللتان يحسدنا عليهما كثيرون لم تعودا مصدر راحة وطاقة بل مبعث قلق يذكّر الناس بأن تغيّر المناخ ليس مجرد نظرية بعيدة، بل واقع يعصف بحياتهم ويلقي بظلاله الثقيلة على حالتهم النفسية وساعتهم البيولوجية ويفاقم الشعور بفقدان الأمان والأمن المائي والغذائي.
حساسيات بالجملة
تأثير انحباس المطر بدأ يلاحظ بشكل واضح على صحة اللبنانيين وعلى خلاف ما يظنّ الكثيرون فليست فيروسات الرشح والإنفلونزا والكورونا وغيرها من الفيروسات التنفسية هي التي ازدادت بشكل كبير بل الحساسية الصدرية والتنفسية، وفق ما يؤكد د. بيار أبو خليل رئيس جمعية أطباء الجهاز التنفسي في لبنان “فالأمطار المتساقطة لم تنظف الأجواء بشكل كاف من التلوّث والغبار العالق فيها نتيجة الحرب والعوامل الملوثة الأخرى لذا تفاقمت موجات الحساسية التنفسية الناجمة عن التلوث. وفي حين كان الشتاء يريح مرضى الربو والحساسية بسبب نقاء الأجواء ها هم اليوم يتنفسون الذرات المسببة لها ما يصيبهم بنوبات كان يتوقع أن تبدأ في الربيع. وقد تضاف إلى الحساسية فيروسات الشتاء المعتادة فتساهم في تفاقمها وزيادة عدد الداخلين إلى المستشفيات”.
صحيح أن فيروسات الشتاء والحالات المرضية التي تسببها ليست أكثر من المعتاد لكن الخطر الصحي القادم سيكون زيادة المشاكل الرئوية مع بداية الربيع لأنها ستنطلق من قاعدة مرتفعة نظراً لكونها لم تشهد استراحة في الشتاء. ويمكن لتزهير الأشجار المبكر الذي نشهده اليوم أن يفاقم الحساسيات وكذلك احتمال وصول الرياح الخماسينية باكراً. تأثير انحباس الأمطار يؤكد د. أبو خليل سيكون على الطبيعة أكثر من البشر ولكن كل ما يصيب الطبيعة ينعكس بشكل مباشر على الإنسان.
المصدر: نداء الوطن – زيزي إسطفان