لم تتراجع المحاولات الديبلوماسية الخارجية الهادفة إلى تحييد الأراضي اللبنانية عن معارك قتالية أكثر احتداماً، لكنّها باتت تترافق مع خشية أكثر تخوّفاً من أن يكون لبنان قد تأخّر في سباقه مع الاشتعال الحربيّ، ولم يعد في استطاعته الكثير لإيقاف الحرب الشاملة التي تبدو رياحها الناريّة غير بعيدة عن سماء الجنوب اللبنانيّ المكفهرّة منذ أشهر. ويتمحور القلق الداخليّ والدوليّ بشكلٍ أساسيّ حول ما يمكن أن تأخذه الحكومة الإسرائيلية من قرارات أكثر تأجيجاً للنيران على نطاق الجبهة الحدودية مع لبنان، فيما وصل مستوى المحاذير التي حصل التداول في مضمونها خلال اجتماعات سابقة لموفدين خارجيين مع مرجعيات لبنانية حدّ القول إنّ “القصف يمكن أن يطاول بيروت إذا نشبت الحرب الشاملة”، وهي عبارة استوقفت من واكب تلك المشاورات على النطاق الديبلوماسيّ اللبنانيّ.
لا يلغي ذلك التمسّك اللبنانيّ الرسميّ في ضرورة بلورة الحلّ الديبلوماسيّ سريعاً، حيث لا تزال رئاسة الحكومة اللبنانية تعتقد أنّ لبنان لم يفقد القدرة على التفاوض الديبلوماسيّ في مرحلة لاحقة، وأنّه يفترض بإسرائيل أن تعمل من ناحيتها على الالتزام التطبيقيّ بفحوى القرار الدوليّ 1701. وهناك استفهامات بارزة حول الهامش التفاوضيّ الممكن للدولة اللبنانية في غياب انتظام عمل مؤسّسات الدولة وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية وغياب وجود حكومة كاملة الصلاحيات. وإذا كان الاهتمام الدوليّ لا يزال حيويّاً في مساعدة لبنان للتوصّل إلى حلول، فإنّ معطيات “النهار” أكّدت أنّ تطوّرات الأوضاع اللبنانية ستكون مطروحة قريباً على طاولة المشاورات الفرنسية الأميركيّة، وفق ما أشار إليه الموفد الرئاسيّ الفرنسيّ جان إيف لودريان خلال لقاءاته مع القوى اللبنانية، لكنّ المهلة باتت قصيرة أمام لبنان وأقصاها شهر آب المقبل حتى يكون في مقدوره أن يلاقي الاهتمام الدوليّ به حالياً.
تطرح الاجتماعات التي عقدها لودريان أيضاً هواجس فرنسا من انزلاق المنطقة نحو حرب شاملة، مع محاولة فرنسية العمل إلى جانب الدول المهتمّة في مساندة لبنان على تجاوز أزماته، بما في ذلك التصدّي للحرب الشاملة وإنهاء التعطيل على مستوى استحقاق رئاسة الجمهورية اللبنانية. وإذ عبّر لودريان عن قلقه من أن يفقد لبنان حضوره السياسيّ إذا لم يبلور فرصة انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، وإحياء مؤسسات الدولة، بحسب ما استقته “النهار”، فإنّ كلامه استوقف قوى في المعارضة اللبنانية الأكثر خشية من ناحيتها من أن يغيب لبنان عن المعادلة التفاوضية في المنطقة في ظلّ سيطرة محور “الممانعة” على القرارات الاستراتيجية، بما في ذلك قرار السلم والحرب، واضمحلال الدور التفاوضيّ للدولة اللبنانية وسط الشغور المؤسساتيّ المتفاقم. ولا يلغي ذلك استكمال المساعي التي تأخذها الدول الصديقة للبنان على عاتقها عبر “اللجنة الخماسية” بحثاً عن حلول على مستوى الاستحقاق الرئاسي اللبنانيّ تحديداً، شمولاً في أهمية التوصّل إلى اقتراح فكرة “المرشح الثالث”. وأكّدت بعض قوى المعارضة اللبنانية أمام لودريان إمكان الموافقة على بعض الشروط الإضافية المطروحة لأيّ تشاور حواريّ يضمّ الكتل النيابيّة على تنوّعها، إذا كانت هناك ضمانات بانعقاد جلسات انتخابية بدورات متلاحقة على تنوّع ما يمكن التوصّل إليه في المشاورات النيابية، إضافةً إلى اشتراط تخلّي محور “الممانعة” عن مرشّحه الرئاسيّ.
تتقلّص الترجيحات حول إمكان أن تتغيّر الأوضاع اللبنانية السياسية أو الحربية على حدٍّ سواء في غضون أشهر قليلة، إذا أبقى “حزب الله” على رفضه الانتقال إلى متغيرات على مستوى الملفّات اللبنانية قبل انتهاء حرب غزّة. فماذا يمكن الحكومة اللبنانية أن تغيّر والحال هذه في مرحلة تحذيرية من الحرب الشاملة؟ وفق أجواء واكبتها “النهار” على نطاق مقرّب من رئاسة حكومة تصريف الأعمال، إنّ لبنان لم يفقد القدرة العملانية على شجب الأعمال الحربية وبخاصّة في المؤتمرات الدولية، فيما يعتقد الموقف الرسمي أنّ لبنان يتأثّر بالتطورات الحدودية مع إسرائيل والأوضاع الفلسطينية فضلاً عن التحدّث باستمرار في ضرورة تطبيق القرار الدولي 1701 رغم معرفة الحكومة في غياب القدرة على الحلّ قبل انتهاء حرب غزّة، مع الأخذ في الاعتبار إمكان نشوب الحرب الشاملة.
أكثر ما يمكن للحكومة اللبنانية أن ترتّبه حالياً هو التحضير للمرحلة اللاحقة حتى وإن كانت متّجهة نحو الاحتدام الحربيّ، فيما كانت الحكومة كلّفت وزارتي الدفاع والداخلية في العمل على تشكيل لجان خاصّة تحضيرية في حال نشبت الحرب الشاملة حتى تكون هناك قدرة على الاستجابة للطوارئ، لكن يبدو التعويل منخفضاً في الداخل اللبنانيّ على مدى جدواها. وباتت قوى المعارضة اللبنانية على قناعة أكثر رسوخاً في أنّ المعارك الحربية على الحدود اللبنانية الإسرائيلية لن تنتهي في مرحلة سريعة وأنّها ستحدّد تطورات استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية التي يعطّلها محور “الممانعة” الذي لا يبدو لمعارضيه أنّه يحبّذ وجود رئيس حاليّاً، ولن يغيّر في توازنات البلد مع رهان على إمكان تحقيق نقاط سياسية لمصلحته بعد انتهاء الحرب الناشبة في قطاع غزّة.