90% من منازل البلدة مدمّرة: هنا كانت طير حرفا

يحكى أنّ قرية، اسمها طير حرفا، كانت موجودة على الخريطة اللبنانية، حوّلها العدوّ أثراً بعد عين في الحرب الصهيونية الأخيرة، انتقاماً من مشاركتها الفاعلة ضدّه خلال حرب إسناد غزة. حرفياً، لم يعد في البلدة سوى 15 بيتاً فقط قائمة على أعمدتها، فيما بقيّة بيوت القرية إما نسفت بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني الماضي، أو قُصفت بالغارات الجوية خلال فترة حرب الإسناد.

بعد انسحاب العدو منها الأسبوع الماضي، عاد أهالي طير حرفا المجاورة للأراضي الفلسطينية المحتلة إلى قريتهم، للمرّة الأولى بعد سنة وشهرين من تهجيرهم مع بداية حرب الإسناد في الثامن من تشرين الأول 2023. لكن العودة هذه المرّة لن تكون دائمة قبل انتهاء ورشة إعادة الإعمار، فالعدو حوّل القرية إلى بقعة غير قابلة للحياة، بلا ماء أو كهرباء أو حتى طرقات.

كلّ مظاهر الحياة في البلدة وعلى الطرق المؤدية إليها طُمست. على مشارفها، وبعد انتهاء الطريق التي تربطها بقرية شمع المجاورة، يختفي الزفت من الطرقات، ومعه كلّ ما يسمّى «البنية التحتية». هنا، «قلبت دبابات العدو وجرافاته الطرقات، وجعلت عاليها سافلها»، يقول علي، المقيم داخل محطة مدمرة للوقود على مشارف القرية. أعمدة الكهرباء اقتُلعت، واستُخرجت أنابيب المياه من الأرض، ورُدمت مجاري الصرف الصحي، ودُمّرت محطات إرسال الهواتف الخلوية. رغم ذلك، يفضّل أحمد الإقامة في منزله المجاور للطريق العام بين طير حرفا وشمع، بدل الإقامة في منزل مستأجر في صور. الأسبوع الماضي، عاد إلى زراعة الأرض المحيطة بمنزله، وأصلح إحدى الغرف وأقفلها. بالنسبة إليه، «تؤمن الطاقة الشمسية القدر الكافي من الكهرباء لتشغيل كل ما يلزم في المنزل، وتؤمن بئر جمع الأمطار المياه».

في قلب القرية الممسوحة عقارياً، لم تغب الحياة، إذ فشل العدو في انتزاع الروح منها، رغم عدم وجود منزل واحد صالح للسكن داخلها. «العدو دمّر 90% من بيوت طير حرفا»، بحسب رئيس بلديتها قاسم حيدر، والمنازل الـ 15 المتبقية في أحد أحياء القرية الداخلية محروقة، أو متضررة إنشائياً. ولكن، في ساعات النهار، تزدحم البلدة بأهلها العائدين لتفقّد ما تبقى من بيوتهم، وحمل ما تيسّر من أغراض نجت من التفجيرات إلى مراكز التهجير التي يصفونها بالمؤقتة، مهما طال الوقت. كذلك تحضر لجان المهندسين التابعين لـ«جهاد البناء» لتسجيل الأضرار، ما ساهم في زيادة أعداد الوافدين إلى القرية شبه المعزولة عن الحضارة نهاراً، والذين يمضون الوقت فوق أنقاض بيوتهم. تعدّ جنى الفطور والشاي الساخن مستخدمةً ما تبقى من مطبخ منزلها، إذ نجت «كاسات» الشاي وعبوات الغاز من المجزرة، وتقول إنّ هذه «أول ترويقة في المنزل، أو على ما تبقى منه، منذ سنة وشهرين»، فيما تجمع جارتها مريم كتب أولادها المدرسية، والصور العائلية، وأجزاء من الأثاث المبعثر خارج البيت لنقلها إلى المنزل المستأجر في منطقة العباسية في صور.

يشير كمال جحا إلى بيته وبيوت إخوانه الثلاثة التي نُسفت تماماً، ويعدّد أشجار الزيتون في كرم العائلة التي اقتلعتها جرافات العدو، بعدما حوّلت الكرم إلى موقف للآليات الثقيلة. وبعد تسجيل أحد المهندسين للأضرار، وإطلاق حكم الهدم على منزله المتصدّع. يلفت جحا إلى وجود طبقتين من الاسمنت في سقف منزله، لأنّ «هذه المرة الثانية التي يهدم فيها. المرة الأولى كانت في حرب تموز 2006». إلا أنّ جحا يرفض الاستسلام تماماً، فهو كان في انتظار الكشف لتسجيل الأضرار. والآن، «سأقوم بجرف المنزل، وسأحضر بيتاً جاهزاً للإقامة فيه بدل البقاء في بيت مستأجر في مدينة صور. أنا مهندس مدني، وسأعمل من طير حرفا على مشاريع إعادة إعمار القرية».
وينعكس الصمود في طير حرفا على شكل ورشة إعادة إعمار مصغرة. فإلى جانب أعمال الكشف وتسجيل الأضرار، بدأت الجرافات والآليات الكبيرة العمل على رفع الركام من الطرقات وفتحها. وانتشرت فرق العمل في عدد من المؤسسات على الطريق المؤدي إلى البلدة، يحاول عدد من العمال إصلاح هنغار حديدي يستخدم لتخزين مواد البناء بغية إعادة تشغيله. هنا، فضّل عدد من أهالي القرية استخدام ما تبقى من المنزل لـ«الصمود وإعادة الإعمار»، وفق محمد حيدر، المزارع وصاحب أحد المنازل المدمرة، فيما كان يتقاضى من تاجر خردة ثمن الحديد والمعادن الأخرى المتبقية من منزله. ويؤكّد أنّه سيوظّف ثمن ما باعه في إعادة تأهيل أرضه الزراعية في البلدة، وشراء شتول الزيتون والفاكهة لاستثمارها».

عودة أهالي الشهداء لزيارة أولادهم
إلى جانب أهالي طير حرفا، يحضر ذوو شهداء سقطوا في البلدة لزيارة البيوت التي استشهد فيها أبناؤهم. على مدى سنة وشهرين، استشهد عدد كبير من المقاومين في القرية، إما في المواجهات المباشرة، أو في الغارات الجوية. قرب أحد أعمدة الإرسال الكبيرة المدمرة في البلدة، تتفقّد أمّ شهيد أنقاض منزل رفعت صورته فوقها. بين أثاث المنزل المبعثر، وجدت ما تبقى من حقيبته. قبّلتها وحملتها على ظهرها، وبدأت بتمريغ وجهها بقطع من الألبسة العسكرية والمدنية، قبل أن تبدأ بطيّها ووضعها في الحقيبة. «هذه ثياب الحبيب»، تقول. تسأل المحيطين عن المكان الذي رفعوا منه جثة ابنها، وكيفية استشهاده، بينما تلملم مظاريف الرصاص الفارغة. تفرح عند معرفة أنّ ابنها واجه العدو من مسافة صفر، والطلقات الموجودة في المكان كان هو المسؤول عن إطلاقها.

فؤاد بزي – الاخبار