Featuredخاص الموقع

خاص- اقتصاد الظلّ وحروب العصابات… حقيقة مخيّم شاتيلا!

ميرنا صابر – خاص breaking news leb

في عمق المخيمات الفلسطينيّة المنتشرة على أطراف المدن اللبنانيّة، تتكوّن منظومة موازية للدولة، تتغذّى من الفقر والعزلة وتحوّلها إلى بيئة خصبة لعصابات منظمة تُدير تجارة المخدرات والسلاح والتهريب، في ظل غياب كامل لأي سلطة مركزية قادرة على فرض القانون. هذه المخيمات، التي أُنشئت كملاجئ موقتة منذ أكثر من سبعين عاماً، باتت اليوم جزراً خارجة عن السيطرة، تُحكمها قوانينها الداخليّة وتحميها توازنات الفصائل والسلاح المنتشر داخلها أكثر من المدارس والمراكز الصحيّة.
لم تعد ظاهرة المخدرات فيها عابرة أو مرتبطة بشباب ضائع يبحث عن مهرب من البؤس، بل تحوّلت إلى صناعة كاملة، تُدار باحتراف من قبل شبكات تملك تمويلاً وسلاحاً وحماية. هناك من يزرع، ومن يهرّب، ومن يوزّع، ومن يقتل إذا لزم الأمر. يكفي أن يدخل غريب إلى أحد أزقة مخيم شاتيلا أو برج البراجنة ليكتشف أن “الرائحة” وحدها تكفي لتُخبره أين تبدأ حدود السوق. داخل تلك الأزقة، يتحوّل التاجر إلى زعيم، والمروّج إلى حارسٍ لمنطقة نفوذ صغيرة، والضحية إلى زبون دائم يشتري السمّ بنقوده المعدودة، أو بحياته أحياناً.
الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة تعرف جيداً هذه الشبكات وأسماءها، لكنها تتعامل معها بحذر بالغ. دخول الجيش أو قوى الأمن إلى أي مخيم يُعدّ مغامرة أمنيّة قد تفجّر اشتباكاً مسلحاً في أي لحظة، لأن العصابات ليست وحدها من تملك السلاح، بل الفصائل نفسها تتقاطع معها أحياناً في المصالح أو تغضّ النظر حفاظاً على “الاستقرار الداخلي”. في المقابل، تنشأ في بعض المخيمات سلطات محليّة غير رسميّة لجان شعبيّة أو مجموعات مسلحة صغيرة تحاول فرض النظام، لكنها سرعان ما تقع تحت ضغط العصابات التي تمتلك المال والنفوذ.
الأحداث الأخيرة في شاتيلا، والتي شهدت مقتل شابتين في أقل من 48 ساعة، لم تكن سوى قمّة جبل الجليد، أعادت فتح ملفٍ طال إغلاقه. هذه الجرائم لم تولد فجأة، بل هي نتيجة تراكم سنوات من الإفلات من العقاب وتحوّل تجارة المخدرات إلى “اقتصاد ظلّ” يُدرّ أرباحاً ضخمة في بيئة معدومة الفرص. وفي كل مرة يُقتل فيها أحدهم، تُصدر الفصائل بيانات تنديد، وتبدأ جولات وساطة، ثم تهدأ الأمور… حتى الجريمة التالية.
الأخطر من كل ذلك أنّ المخيمات لم تعد فقط مركز استهلاك، بل باتت نقطة توزيع نحو المدن اللبنانيّة، حيث تتسلّل البضاعة عبر ممرّات معروفة. هناك خطوط مفتوحة بين بعض التجار داخل المخيمات وشبكات أكبر في الضاحيّة الجنوبيّة، ما جعل تجارة السموم تتخطى حدود المخيم لتصبح جزءاً من الاقتصاد الموازي في البلاد. بهذا المعنى، المخيم لم يعد ضحيّة فقره فقط، بل أيضاً مسرحاً لشبكات منظمة تستغل غياب الدولة لتبني دولة داخل الدولة.
تأثير هذه الظاهرة يتجاوز الجانب الأمني. فجيل كامل من الشباب الفلسطيني في لبنان يعيش اليوم في دائرة الإدمان أو التورّط في الترويج، بعدما غابت المدارس وفرص العمل وارتفعت نسب البطالة إلى أكثر من 60% في بعض المخيمات. ومع كل حملة مداهمة محدودة، يُعتقل صغار المروّجين بينما يبقى كبار التجار بعيدين عن المحاسبة، محميين بتحالفات سياسية أو عسكرية، أو ببساطة لأنهم “خط أحمر” في لعبة التوازنات اللبنانيّة الفلسطينيّة. التجارب السابقة تُظهر أنّ الحلول الأمنيّة وحدها غير كافية. حين يُغلق المخيم يوماً بعد مداهمة، يفتح في اليوم التالي عشرات الأبواب الأخرى للمخدرات. السبب عميق: غياب أي مشروع اجتماعي أو اقتصادي بديل. المخيم الذي يعيش على المساعدات بات يعيش على الممنوعات. والعائلة التي لا تجد لقمة العيش، تجد نفسها مضطرة لغضّ النظر عن ابنٍ يبيع السموم لتأمين قوتها. إنها دورة الفقر التي تحمي نفسها بنفسها.
الوقائع الأخيرة قد تكون جرس إنذار أكثر من حدثاً معزولاً. فكل جريمة في شاتيلا أو برج البراجنة أو عين الحلوة ليست سوى مرآة لمجتمع كامل يتفكك بصمت. ومع كل طلقة تُطلق داخل المخيم، تسقط فكرة الدولة أكثر. السؤال الحقيقي اليوم ليس عن أسماء المروّجين ولا عن كميات المصادرات، بل عن مدى قدرة لبنان على تحمّل هذه “الدويلات” الصغيرة التي تنمو على أطرافه، تُصدّر له الجريمة، وتستورد منه اللامبالاة.
المخدرات داخل المخيمات ليست أزمة أمنيّة فحسب، بل أزمة هويّة ووطن. حين يتحوّل اللجوء إلى عذرٍ للفوضى، والفقر إلى مبرّرٍ للجريمة، يُمحى الخط الفاصل بين الضحيّة والجلاد. وربما كانت جريمة شاتيلا الأخيرة مجرد إشارة إلى ما ينتظر لبنان إن استمرّ في تجاهل هذا الملف: جيل جديد من اللاجئين المولودين في العتمة، لا يعرفون من الوطن سوى رائحة البارود، ومن الحياة سوى ثمن الجرعة.

زر الذهاب إلى الأعلى